فصل: باب قوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} (الأنعام: 65)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


كِتَاب الاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ

- فيه‏:‏ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ لِعُمَرَ‏:‏ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ أَنَّ عَلَيْنَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ لاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ إِنِّى لأعْلَمُ أَىَّ يَوْمٍ نَزَلَتْ‏:‏ هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ‏:‏ يَوْمَ عَرَفَةَ، فِى يَوْمِ جُمُعَةٍ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، سَمِعَ عُمَرَ الْغَدَ حِينَ بَايَعَ الْمُسْلِمُونَ أَبَا بَكْرٍ، وَاسْتَوَى عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، تَشَهَّدَ قَبْلَ أَبِى بَكْرٍ، فَقَالَ‏:‏ أَمَّا بَعْدُ، فَاخْتَارَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِى عِنْدَهُ عَلَى الَّذِى عِنْدَكُمْ، وَهَذَا الْكِتَابُ الَّذِى هَدَى اللَّهُ بِهِ رَسُولَكُمْ، ن فَخُذُوا بِهِ تَهْتَدُوا، وَإِنَّمَا هَدَى اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، ضَمَّنِى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ وَقَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو بَرْزَةَ، قَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ يُغْنِيكُمْ بِالإسْلامِ وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَبْدِالْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُبَايِعُهُ، وَأُقِرُّ لَكَ‏:‏ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِيمَا اسْتَطَعْتُ‏.‏

لا عصمة لأحد إلا فى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو فى إجماع العلماء على معنى فى أحدهما‏.‏

والسنة تنقسم قسمين‏:‏ منها واجبة، ومنها غير واجبة، فأما الواجبة فما كان تفسيرًا من النبى صلى الله عليه وسلم لفرض الله، وكل ما أمر به النبى أو نهى عنه أو فعله فهو سنة، ما لم يكن خاصًا له، وأما غير الواجب من سنته صلى الله عليه وسلم فما كان من فعله تطوعًا ولا يحرج أحد فى تركه كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول‏)‏‏.‏

وكقوله‏:‏ ‏(‏لا تتخذوا الضيعة فترغبوا فى الدنيا‏)‏‏.‏

وأكثر أصحابه كان لهم ضياع، فدل أنه أدب منه نستعين به على دفع الرغبة فى الدنيا، ومثل ذلك مما أمر به تأديبًا لأمته بأكرم الأخلاق من غير أن يوجب ذلك عليهم، ومثل ذلك ما فعله فى خاصة نفسه من أمر الدنيا كاتخاذه لنعله قبالين، ولبسه النعال السبتية، وصبغه إزاره بالورس، وحبه القرع، وإعجابه الطيب، وحبه من الشاة الذراع، ونومه على الشق الأيمن، وسرعته فى المشى، وخروجه فى السفر يوم الخميس، وقدومه فى الضحى وشبه ذلك، فلم يسنه لأمته، ولا دعاهم إليه ومن تشبه به صلى الله عليه وسلم حبًا له كان أقرب إلى ربه كفعل ابن عمر فى ذلك‏.‏

باب قَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ‏)‏

- فيه‏:‏ أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُنِى أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأرْضِ، فَوُضِعَتْ فِلا يَدِى‏)‏‏.‏

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ فَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنْتُمْ تَلْغَثُونَهَا، أَوْ تَرْغَثُونَهَا، أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا مِنَ الأنْبِيَاءِ نَبِىٌّ إِلا أُعْطِىَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ أُومِنَ، أَوْ آمَنَ، عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِى أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَىَّ، فَأَرْجُو أَنِّى أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏)‏‏.‏

أى‏:‏ صدق بتلك الآيات لإعجازها لمن شهدها، كقلب العصا حية، وفلق البحر لموسى وكإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى، وكان الذى أعطيت أنا وحيًا أوحاه الله إلىّ فكان آية باقية دعى إلى الإتيان بمثله أهل التعاطى له، ومن نزل بلسانهم، فعجزوا عنه ثم بقى آية ماثلة للعقول إلى من يأتى إلى يوم القيامة، يرون إعجاز الناس عنه رأى العين، والآيات التى أوتيها غيره من الأنبياء قبله رئى إعجازها فى زمانهم، ثم لم تصحبهم إلا مدة حياتهم، وانقطعت بوفاتهم، وكان القرآن باقيًا بعد النبى صلى الله عليه وسلم يتحدى الناس إلى الإتيان بمثله، ويعجزهم على مرور الأعصار فكان آية باقية لكل من أتى، فلذلك رجا أن يكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة، مع أن الله تعالى قد ضمن هذه الآية ألا يدخلها الباطل إلى أن تقوم الساعة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏، وضمن نبينا صلى الله عليه وسلم بقاء شريعته وإن ضيع بعضها قوم بقوله‏:‏ ‏(‏لا تزال طائفة من أمتى على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتى أمر الله وهم على ذلك‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ وأنتم تلغثونها أو ترغثونها‏.‏

شك فى أى الكلمتين قال النبى صلى الله عليه وسلم فأما لغث باللام فلم أجده فيما تصفحت من اللغة، وأما رغث بالراء فهو معروف عندهم يقال‏:‏ رغثت كل أنثى ولدها وأرغثته أرضعته فهى رغوث‏.‏

باب الاقْتِدَاءِ بِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

وَقَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 74‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ أَيِمَّةً نَقْتَدِى بِمَنْ قَبْلَنَا، وَيَقْتَدِى بِنَا مَنْ بَعْدَنَا‏.‏

وقال ابْنُ عَوْنٍ‏:‏ ثَلاثٌ أُحِبُّهُنَّ لِنَفْسِى وَلإخْوَانِى‏:‏ هَذِهِ السُّنَّةُ، أَنْ يَتَعَلَّمُوهَا، وَيَسْأَلُوا عَنْهَا، وَالْقُرْآنُ أَنْ يَتَفَهَّمُوهُ وَيَسْأَلُوا عَنْهُ، وَيَدَعُوا النَّاسَ إِلا مِنْ خَيْرٍ‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو وَائِل، قَالَ‏:‏ جَلَسْتُ إِلَى شَيْبَةَ فِى هَذَا الْمَسْجِدِ، قَالَ‏:‏ جَلَسَ إِلَىَّ عُمَرُ فِى مَجْلِسِكَ هَذَا، فَقَالَ‏:‏ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لا أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلا بَيْضَاءَ إِلا قَسَمْتُهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، قُلْتُ‏:‏ مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ، قَالَ‏:‏ لِمَ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ لَمْ يَفْعَلْهُ صَاحِبَاكَ، قَالَ‏:‏ هُمَا الْمَرْءَانِ يُقْتَدَى بِهِمَا‏.‏

- وفيه‏:‏ حُذَيْفَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَنَّ الأمَانَةَ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ فِى جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ، فَقَرَءُوا الْقُرْآنَ، وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَبْدُاللَّهِ‏:‏ إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْىِ هَدْىُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَشَرَّ الأمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَ‏)‏ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 134‏]‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لأقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ جَابِر، قَالَ‏:‏ جَاءَتْ مَلائِكَةٌ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ نَائِمٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ، وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ، فَقَالُوا‏:‏ إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلا، فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلا، فَقَالُوا‏:‏ مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا، وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً، وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِىَ دَخَلَ الدَّارَ، وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِىَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، فَقَالُوا‏:‏ أَوِّلُوهَا لَهُ‏:‏ يَفْقَهْهَا، َقَالُوا‏:‏ فَالدَّارُ الْجَنَّةُ، وَالدَّاعِى مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ‏.‏

- وفيه‏:‏ حُذَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ، اسْتَقِيمُوا، فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلالا بَعِيدًا‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا مَثَلِى وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا، فَقَالَ‏:‏ يَا قَوْمِ إِنِّى رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَىَّ، وَإِنِّى أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ، فَالنَّجَاءَ، فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا فَانْطَلَقُوا عَلَى مَهَلِهِمْ فَنَجَوْا وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِى فَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِى وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، لَمَّا النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ‏:‏ وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِى عِقَالا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أن عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ قَالَ لعُمر‏:‏ وَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَمَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يَقَعَ بِهِ، فَقَالَ الْحُرُّ بن قيس‏:‏ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 199‏]‏ وَهَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ، فَوَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أسماء فى حديث الخسوف‏:‏ قَالَ النَّبِي عليه السلام‏:‏ ‏(‏فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ، فَيَقُولُ‏:‏ مُحَمَّدٌ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ فَأَجَبْنَاهُ فَآمَنَّا، واتبعنا‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فدَعُونِى مَا تَرَكْتُكُمْ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَىْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ أمر الله عباده باتباع نبيه والاقتداء بسنته فقال‏:‏ ‏(‏فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِىِّ الأُمِّىِّ الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 158‏]‏، وقال‏:‏ ‏(‏فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِىَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏، وتوعد من خالف سبيله ورغب عن سنته فقال‏:‏ ‏(‏فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 63‏]‏، وهذه الآيات مصدقة لأحاديث هذا الباب‏.‏

وأما قول عمر‏:‏ ‏(‏لقد هممت ألا أدع فيها صفراء ولا بيضاء‏)‏ يعنى‏:‏ ذهبًا ولا فضة، أراد أن يقسم المال الذى يجمع بمكة، وفضل عن نفقتها ومؤنتها ويضعه فى مصالح المسلمين، فلما ذكره شيبة أن النبى صلى الله عليه وسلم وأبا بكر بعده لم يعرضا له؛ لم يسعه خلافهما، ورأى أن الاقتداء بهما واجب، فربما تهدم البيت أو خلق بعض آلاته فصرف ذلك المال فيه، ولو صرف ذلك المال فى منافع المسلمين لكان كأنه قد خرج من وجهه الذى سبل فيه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأما الأمانة التى فى حديث حذيفة، فإنها الإيمان وجميع شرائعه، والتنزه عن الخيانة وشبهها‏.‏

والجذر‏:‏ أصل الشىء، فدل ذلك أن الإيمان مفروض على القلب ولابد من النية فى كل عمل ما يذهب إليه الجمهور‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏نزلت فى جذر قلوب الرجال‏)‏ يعنى‏:‏ بعض الرجال الذين ختم الله لهم بالإيمان، وأما من لم يقدر له به فليس بداخل فى معنى ذلك، ألا ترى قوله‏:‏ ‏(‏ونزل القرآن ثم قرءوا من القرآن وعلموا من السنة‏)‏ يعنى المؤمنين خاصة المذكورين فى أول الحديث‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏جاءت الملائكة، فقال بعضهم‏:‏ العين نائمة والقلب يقظان‏)‏ يدل أن رؤيا الأنبياء وحى لثبات القلب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن عينى تنامان ولا ينام القلب‏)‏ وفيه دليل أن الفهم والمعرفة فى القلب‏.‏

وقول الملك‏:‏ ‏(‏أولوها له‏)‏‏.‏

يدل أن الرؤيا على ما عبرت فى النوم‏.‏

ومعنى قول الحر ‏(‏فما جاوزها عمر وكان وقافًا عند كتاب الله‏)‏‏.‏

فهو معنى الترجمة، والإعراض عن الجهل إن صح أنه جهل مرغب فيه مندوب إليه، وأما إذا كان الجفاء على السلطان تعمدًا أو استخفافًا بحقه فله تغييره والتشديد فيه‏.‏

واستعمال عمر لهذه الآية يدل على أنها غير منسوخة، وهو قول مجاهد وقتادة، وروى هشام بن عروة عن أبيه، وعن عبد الله ابن الزبير قالا‏:‏ نزلت هذه الآية فى أخذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم وما لا يجهدهم‏.‏

فعلى هذا القول هى محكمة وهذا لفظه لفظ الأمر، وهو تأديب من الله لنبيه، وفيه تأديب لأمته، فهو تعليم للمعاشرة الجميلة والأخذ بالفضل، وقد روى عن ابن عباس فى قوله‏:‏ ‏(‏خُذِ الْعَفْوَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 199‏]‏، يعنى الفضل من أموال الناس، ثم نسخ ذلك وهو قول الضحاك والسدى‏.‏

وفيها قول ثالث عن ابن زيد قال‏:‏ أمر الله نبيه بالعفو عن المشركين وترك الغلظة عليهم، قبل أن يفرض عليه قتالهم ثم نسخت بالقتال‏.‏

فأما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشىء فائتوا منه ما استطعتم‏)‏ فقد احتج به من قال‏:‏ إن الأمر موضوع على الندب دون الإيجاب، قالوا‏:‏ ألا تراه صلى الله عليه وسلم علق الأمر بمشيئتنا واستطاعتنا، وألزمنا الاتنهاء عما نهى عنه، فوجب حمل النهى على الوجوب دون الأمر‏.‏

قال أبو بكر بن الطيب‏:‏ والتعلق بهذا غير صحيح ومعنى قوله‏:‏ ‏(‏فائتوا منه ما استطعتم‏)‏ إذا كنتم مستطيعين، وقد يأمر بالفعل الذى يستطيعه على طريق الوجوب كما يأمر به على وجه الندب، ولا يدل على أنه ليس بواجب قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏، ولم يرد به ندبنا إلى التقوى دون إيجابه، ومعنى الآية والخبر‏:‏ أن اتقوه إذا كنتم سالمين غير عجزة قادرين، ولم يرد أنه لا يؤمر إلا من قد وجدت قدرته على الفعل كما تقول القدرية‏.‏

وقال المهلب‏:‏ من احتج بهذا الحديث أن النواهى أوجب من الأوامر فهو خطأ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينه بهذا الحديث عن المحرمات التى نهى الله عنها فى كتابه بأن حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وإنما أراد فإذا نهيتكم عما هو مباح لكم أن تأتوه، فإنما نهيتكم رفقًا بكم، كنهيه عن الوصال إبقاءً عليهم، وكنهيه عبد الله بن عمرو عن صيام الدهر وقيام الليل كله، وكنهيه عن إضاعة المال؛ لئلا يكون سببًا لهلاكهم، وكنهيه عن كسب الحجام وعسب الفحل تنزهًا واعتلاءً عن الأعمال الوضيعة‏.‏

وأما الأمر الذى أمرهم أن يأتوا منه ما استطاعوا، فهو الأمر من التواصى بالخير، والصدقات وصلة الرحم، وغير ذلك مما سنه، وليس بفرض ولذلك قال لهم‏:‏ فائتوا ما استطعتم أى‏:‏ لم آمركم بذلك أمر إلزام ولا أمر حتم أن تبلغوا غاياته لكن ما استطعتم من ذلك؛ لأن الله تعالى عفا عما لا يستطاع‏.‏

وعلى هذا المعنى خرج معنى الحديث منه صلى الله عليه وسلم؛ لأن أصحابه كانوا يكثرون سؤاله عن أعماله من الطاعات يحرصون على فعلها فكان ينهاهم عن التشديد ويأمرهم بالرفق؛ خشية الانقطاع وسأتقصى مذاهب العلماء فى الأمر والنهى فى باب النهى على التحريم إلا ما يعرف إباحته بعد هذا إن شاء الله تعالى‏.‏

باب مَا يُكْرَهُ مِنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ وَتَكَلُّفِ مَا لا يَعْنِي

وَقوله اللَّه‏:‏ ‏(‏لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 101‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ سَعْد، قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم اتَّخَذَ حُجْرَةً فِى الْمَسْجِدِ مِنْ حَصِيرٍ، فَصَلَّى فِيهَا لَيَالِىَ حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ، ثُمَّ فَقَدُوا صَوْتَهُ لَيْلَةً، فَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ نَامَ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَتَنَحْنَحُ؛ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا زَالَ بِكُمِ الَّذِى رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ، فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِى بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلاةِ الْمَرْءِ فِى بَيْتِهِ إِلا الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، سُئِلَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا، فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ غَضِبَ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏سَلُونِى‏)‏، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَبِى‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَبُوكَ حُذَافَةُ‏)‏، ثُمَّ قَامَ آخَرُ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَبِى‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَبُوكَ، سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ‏)‏، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا بِوَجْهِ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْغَضَبِ، قَالَ‏:‏ إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ‏.‏

- وذكر قصة حذافة من رواية أَنَس وفيه‏:‏ فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ‏:‏ أَيْنَ مَدْخَلِى يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏النَّارُ‏)‏، فَقَامَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ، فَقَالَ‏:‏ مَنْ أَبِى يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَبُوكَ حُذَافَةُ‏)‏، فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم رَسُولا، فَسَكَتَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم عند ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَىَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِلا عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

وقال أَنَس، لما قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَبُوكَ فُلانٌ‏)‏، نَزَلَتْ‏:‏ ‏(‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 101‏]‏ الآيَةَ‏.‏

- وفيه‏:‏ الْمُغِيرَةِ، أنّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَأَلون حَتَّى يَقُولُوا‏:‏ هَذَا اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ‏؟‏‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن مَسْعُود، أن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عليه نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ سَلُوهُ، عَنِ الرُّوحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ لا تَسْأَلُوهُ لا يُسْمِعُكُمْ فيه مَا تَكْرَهُونَ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

قال ابن عون‏:‏ سألت نافعًا عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 101‏]‏، فقال‏:‏ لم تزل كثرة السؤال منذ قط تكره‏.‏

وقال الحسن البصرى‏:‏ فى هذه الآية سألوا النبى صلى الله عليه وسلم عن أمور الجاهلية التى عفا الله عنها، ولا وجه للسؤال عما عفا الله عنه، وقيل‏:‏ كان الرجل الذى سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن أبيه يتنازعه رجلان فأخبره النبى صلى الله عليه وسلم بأبيه منهما، وأعلم صلى الله عليه وسلم أن السؤال عن مثل هذا لا ينبغى، وأنه إذا ظهر فيه الجواب ساء ذلك السائل، وأدّى ذلك إلى فضيحته لا سيما وقت سؤال النبى ونزول الآيات فى ذلك‏.‏

وقد تقدم فى كتاب الفتن كراهية أم حذافة لسؤاله النبى صلى الله عليه وسلم عن أبيه وما قالت له فى ذلك‏.‏

فلسؤالهم له صلى الله عليه وسلم عما لا ينبغى وتعنيته صلى الله عليه وسلم للذى قال له‏:‏ أين مدخلى يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ النار؛ لأن تعنيته صلى الله عليه وسلم يوجب النار، وقد أمر الله المسلمين بتعزيزه وتوقيره وألا يرفع الصوت فوق صوته، وتوعد على ذلك بحبوط العمل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 2‏]‏، ألا ترى فهم عمر لهذا الأمر وتلافيه له؛ بأن برك على ركبتيه، وقال‏:‏ رضينا بالله ربا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيا وقال مرة‏:‏ إنا نتوب إلى الله‏.‏

فسكت صلى الله عليه وسلم وسكن غضبه، ورضى قول عمر حين ذب عن نبيه ونبّه على التوبة مما فيه إغضابه أن يؤدى إلى غضب الله، وقد ذكرنا شيئًا من هذا المعنى فى كتاب الفتن فى باب التعوذ من الفتن الدليل على صواب فعل عمر قول النبى صلى الله عليه وسلم بعد ذلك‏:‏ ‏(‏أولى والذى نفسى بيده‏)‏ يعنى‏:‏ أولى لمن عنَّت نبيه فى المسألة وأغضبه، ومعنى أولى عند العرب التهدد والوعيد‏.‏

وقال المهلب‏:‏ يقال للرجل‏:‏ إذا أفلت من عظيمة‏:‏ أولى لك‏.‏

أى‏:‏ كدت تهلك ثم أَفْلَتَّ، ويروى عن ابن الحنفية أنه كان يقول‏:‏ إذا مات ميت فى جواره‏:‏ أولى لى، كدت والله أن أكون السواد المخترم‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأصل النهى عن كثرة السؤال والتنطع فى المسائل مبين فى كتاب الله تعالى فى بقرة بنى إسرائيل أمرهم الله بذبح بقرة فلو ذبحوا أى بقرة كانت لكانوا مؤتمرين غير عاصين، فلما سألوا ما هى وما لونها‏؟‏ قيل لهم‏:‏ لا فارض ولا بكر‏.‏

ضيق عليهم وقد كان ذلك مباحٌ، وكذلك ضيق عليهم فى لونها فقيل لهم‏:‏ صفراء‏.‏

فمنعوا من سائر الألوان، وقد كان ذلك مباحًا لهم، ثم لما قالوا‏:‏ إن البقر تشابه علينا، قيل لهم‏:‏ لا ذلول حرّاثه ولا ساقية للحرث أى معلمة لاستحراج الماء وقد كان ذلك مباحًا لهم، فعز عليهم وجود هذه الصفة المضيق عليهم فيها حتى أمرهم أن يشتروها بأضعاف ثمنها عقوبة بسؤالهم عما لو يكن لهم به حاجة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 101‏]‏ يحذر مما نزل بهؤلاء القوم ثم وعد أنه إن سألوا عنها حين نزول القرآن ضيق عليهم، وقد قال بعض أصحابنا‏:‏ إنه بقيت منه بقية مكروهة وهو أن التنطع فى المسألة والبحث عن حقيقتها يلزم منها أن يأتى بذلك الشرع على الحقيقة التى انكشفت له فى البحث وذلك مثل أن يسأل عن سلع الأسواق الممكن فيها الغصب والنهب هل له شراء ذلك فى سوق المسلمين، وهو يمكن فيه ذلك المكروه أم لا‏؟‏ فيفتى بأن له أن يبتاع ذلك، ثم إن تنطع، فقال‏:‏ إن قام الدليل على السلعة أنها من نهب أو غصب هل لى أن أشتريها‏؟‏ فيفتى بأن لا يشتريها فهذا الذى بقى من كراهة السؤال والتنطع حتى الآن فى النسخ الذى كان يمكن حين نزول القرآن والتضيق المشروع‏.‏

وقد سئل مالك عن قيل وقال وكثرة السؤال‏؟‏ فقال‏:‏ لا أدرى أهو ما أنهاكم عنه من كثرة المسائل، فقد كره رسول الله المسائل وعابها، أو هو مسألة الناس أموالهم‏.‏

وكان زيد ابن ثابت وأبى بن كعب وجماعة من السلف يكرهون السؤال فى العلم عما لم ينزل، ويقولون‏:‏ إذا نزلت النازلة وفق المسئول عنها، ويرون الكلام فيما لم ينزل من التكلف‏.‏

وقال مالك‏:‏ أدركت أهل هذا البلد وما عند أحدهم علم غير الكتاب والسنة، فإدا نزلت النازلة جمع الأمير لها من حضر من العلماء، فما اتفقوا عليه أنفذه، وأنتم تكثرون المسائل وقد كرها رسول الله‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا ثبت النهى عن كثرة السؤال والبحث فى هذه الأحاديث، فقد جاء فى كتاب الله ما يعارض ذلك، وهو الأمر بسؤال العلماء والبحث عن العلم؛ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 43‏]‏‏.‏

فالجواب عنه‏:‏ أن الذى أمر الله عباده بالسؤال عنه هو ما ثبت وتقرر وجوبه مما يجب عليهم العمل به، والذى جاء فيه النهى هو ما لم يتعبد الله عباده به، ولم يذكره فى كتابه، وقد سئل ابن عباس عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 101‏]‏ الآية قال‏:‏ ما لم يذكر فى القرآن فهو مما عفا الله عنه، ألا ترى أن الله لم يجب اليهود عن سؤالهم عن الروح لما لم يكن مما لهم به الحاجة إلى علمه، وكان من علم الله الذى لم يطلع عليه أحدًا فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏، فنسبهم تعالى فى سؤالهم عما لم ينبغى لهم السؤال عنه إلى قلة العلم، وقال مالك‏:‏ قيل وقال هو هذه الأخبار والأراجيف فى رأيى، أعطى فلان كذا ومنع كذا بقوله‏:‏ ‏(‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 65‏]‏، فهؤلاء يخوضون، رواه عنه أشهب فى جامع المستخرجة‏.‏

وأما قول بعض اليهود حين سألوه عن الروح‏:‏ لا تسألوه يسمعكم ما تكرهون‏.‏

فإنما قال ذلك لعلمه أنهم كانوا معنتين والمعنت من عقوبته أن يخاطب بما يكره‏.‏

وأما قول صلى الله عليه وسلم فى حديث أنس‏:‏ ‏(‏لن يبرح الناس يسألون‏:‏ هذا الله خالق كل شىء فمن خلق الله‏؟‏‏)‏ هذا من السؤال الذى لا يحل وقد جاء هذا الحديث بزيادة فيه من حديث أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يزال الشيطان يأتى أحدكم فيقول‏:‏ من خلق كذا من خلق كذا، حتى يقول‏:‏ من خلق الله، فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل‏:‏ آمنت بالله‏)‏‏.‏

وفى حديث آخر‏:‏ فذلك ‏(‏صريح الإيمان‏)‏‏.‏

رواه أبو داود حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا سهيل، عن أبيه، عن أبى هريرة ‏(‏أن النبى صلى الله عليه وسلم جاءه ناس من أصحابه فقالوا‏:‏ يا رسول الله، نجد فى أنفسنا الشىء يعظم أن نتكلم به ما نحب أن لنا الدنيا وأنا تكلمنا به، فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أو قد وجدتموه، ذلك صريح الإيمان‏)‏‏.‏

وقد ذكر ابن أبى شيبة من حديث الأعمش، عن ذر، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إنى أحدث نفسى بالأمر لأن أكون حممة أحب إلى من أن أتكلم به‏.‏

فقال له رسول الله‏:‏ الحمد لله الذى رده إلى الوسواس‏)‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف سمّى هذه الخطرة الفاسدة من خطرات الشيطان على القلب صريح الإيمان‏؟‏ قال الخطابى‏:‏ يريد أن صريح الإيمان هو الذى يعظم ما تجدونه فى صدوركم ويمنعكم من قول ما يلقيه الشيطان فى قلوبكم ولولاه لم يتعاظموه، ولم ينكروه ولم يرد أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان، وكيف تكون إيمانًا وهى من قبل الشيطان وكيده، ألا تراه صلى الله عليه وسلم حين سئل عن هذا قال‏:‏ ‏(‏الحمد لله الذى رد كيده إلى الوسوسة‏)‏‏.‏

وفيه وجه آخر، قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏صريح الإيمان‏)‏ يعنى‏:‏ الانقطاع فى إخراج الأمر إلى ما لا نهاية له فلابد عند ذلك من إيجاب خالق لا خالق له، لأن المفكر يجد المخلوقات كلها لها خالق بأثر الصنعة فيها والحدث الجارى عليها والله تعالى بخلاف هذه الصفة لمباينته صفات المخلوقين، فوجب أن يكون خالق الكل، فهذا هو صريح الإيمان، لا البحث الذى هو من كيد الشيطان المؤدى إلى هذا الانقطاع ليحير العقول، فنبه صلى الله عليه وسلم على موضع كيده وتحييره‏.‏

قال غيره‏:‏ فإن وسوس الشيطان فقال‏:‏ ما المانع أن يخلق الخالق نفسه‏.‏

قيل له‏:‏ هذه وسوسة ينقض بعضها بعضا؛ لأن بقولك يخلق قد أوجبت وجوده تعالى، وبقولك نفسه قد أوجبت عدمه، والجمع بين كونه موجودًا ومعدومًا معًا تناقض فاسد؛ لأن من شرط الفاعل تقدم وجوده على وجود فعله فيستحيل كون نفسه فعلاً له؛ لاستحالة أن يقال إن النفس تخلق النفس التى هى هو وهذا بين فى حل هذه الشُبه وهو صريح الإيمان‏.‏

وقال غيره‏:‏ إن سأل سائل عن حديث سعد وزيد بن ثابت، فقال‏:‏ فى هذين الحديثين دلالة على أن الله تعالى يفعل شيئًا من أجل شىء وسببه، وهذا يؤدى إلى قول القدرية‏.‏

فالجواب‏:‏ أنه قد ثبت أن الله على كل شىء قدير، وأنه بكل شىء عليم، وأنه لا يكون من أفعاله التى انفرد بالقدرة عليها ولا تدخل تحت قدرة العباد، ولا تكون من مقدورات العباد التى هى كسب لهم وخلق لله إلا والله مريد لجميع ذلك، فسواء كان أمرًا بذلك عباده أو ناهيًا لهم عنه، فغير جائز أن يقال أنه فعل فعلاً من أفعاله بسبب من الأسباب أو من أجل داع يدعوه إلى فعله؛ لأن السبب والداعى فعل من أفعاله، والقول أنه فاعل بسبب يقضى إلى تعجيزه لحاجته إلى ما لا يصح وقوعه من فعله إلا بوقوع غيره تعالى الله عن ذلك، فإذا فسد ذلك وجب حمل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أعظم المسلمين جُرمًا من سأل عن شىء لم يحرم فحرم من أجله‏)‏‏.‏

على غير ظاهره وصرفه إلى أن الله تعالى فاعل بسؤال السائل الذى نهاه عنه، ومقدر أن يحرم الشىء المسئول عنه إذا وقع السؤال فيه، كل ذلك قد سبق به القضاء والقدر لا أن السؤال موجه للتحريم وعلة له‏.‏

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما زال بكم الذى رأيت من صنيعكم‏)‏ يعنى‏:‏ من كثرة مطالبتكم بالخروج إلى الصلاة حتى خشيت أن تكتب عليكم عقابًا لكم على كثرة ملازمتكم لى فى مداومة الصلاة بكم، لا أن ملازمتهم له موجبة لكتاب الله عليهم الصلاة؛ لما ذكرناه من أن الملازمة والكتب فعلان لله تعالى غير جائز وقوع أحدهما شرطًا فى وقوع الآخر، ولو وقعت الملازمة ووقع كتاب الصلاة عليهم لكان ذلك مما قد سبق به القضاء والقدر فى علم الله‏.‏

وإنما نهاهم، عليه السلام، عن مثل هذا وشبهه تنبيهًا لهم على ترك الغلو فى العبادة وركوب القصد فيها؛ خشية الانقطاع والعجز عن الإتيان بما طلبوه من الشدة فى ذلك، ألا ترى قوله تعالى فيمن فعل مثل ذلك‏:‏ ‏(‏قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 102‏]‏، ففرضت عليهم، فعجزوا عنها فأصبحوا بها كافرين وكان صلى الله عليه وسلم رءوفًا بالمؤمنين رفيقًا بهم، وقد تقدم مثل حديث زيد من رواية عائشة فى أبواب قيام الليل فى كتاب الصلاة، وذكرنا فى توجيهه ما لم يذكر فى هذا الباب فتأمله هناك‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا حمل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شىء لم يحرم فحرم من أجله‏)‏ على غير ظاهره ما وجه ذلك وإثم الجرم به‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ هو على ما تقرر علمه من نسبة اللوم والمكروه إلى من تعلق بسبب من فعل ما يلام عليه، وإن قل تحذيرًا من موافقته له فعظم جرم فاعل ذلك لكثرة الكارهين لفعله‏.‏

وعرض الحائط‏:‏ وسطه، وكذلك عرض البحر وعرض النهر وسطهما، واعترضت عرضه نحوت نحوه عن صاحب العين‏.‏

باب الاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم

- فيه‏:‏ ابْن عُمَر، اتَّخَذَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنِّى اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَنَبَذَهُ‏)‏، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنِّى لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا‏)‏، فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ‏.‏

قال أبو تمام المالكى، وأبو بكر بن الطيب‏:‏ ما كان من أفعال الرسول بيانًا لمجمل كالصلاة، والصيام، والحج، وما دعا إلى فعله كقوله‏:‏ ‏(‏خذوا عنى مناسككم، وصلوا كما رأيتمونى أصلى‏)‏‏.‏

فلا خلاف بين العلماء أنها على الوجوب، واختلفوا فيما كان منها واقعًا موقع القرب لا على وجه البيان والامتثال لتمثيل أمر لزمه، فقال مالك وأكثر أهل العراق‏:‏ إنها على الوجوب، إلا أن يمنع من ذلك دليل، وهو قول ابن سريج وابن خيران من أصحاب الشافعى، وقال بعض أصحاب الشافعى‏:‏ إنها على الندب وإن المتأسى به فيها مندوب إليه أن يقوم دليل على وجوبها، وقال كثير من أهل الحجاز والعراق وأصحاب الشافعى‏:‏ إنها على الوقف إلا أن يقوم دليل على كونها ندبًا أو إباحة أو محظورة‏.‏

قال أبو بكر بن الطيب‏:‏ وبهذا نقول‏.‏

واحتج لذلك بأنه لما كانت القربة الواقعة محتملة لكونها فرضًا ونفلاً لم يجز أن يكون الفعل منه دليلاً على أننا متعبدون مثله، ولا على كونه واجبًا علينا دون كونه نفلاً؛ لأن فعله مقصور عليه دون متعدٍ إلى غيره، وأمره لنا ونهيه متعديان إلى الغير والغرض فيهما امتثالهما فافترقا‏.‏

وحجة من قال‏:‏ إنها على الوجوب‏.‏

أن النبى صلى الله عليه وسلم خلع خاتمه، فخلعوا خواتيمهم وأنه خلع نعليه فى الصلاة، فخلعوا نعالهم، وأنه أمرهم عام الحديبية بالتحلل فوقفوا، فشكا ذلك إلى أم سلمة فقالت له‏:‏ اخرج إليهم واذبح واحلق‏.‏

ففعل ذلك، فذبحوا وحلقوا اتباعًا لفعله، فعلم أن الفعل أكد عندهم من القول، وقال لأم سلمة حين سألتها المرأة عن القبلة للصائم‏:‏ ‏(‏ألا أخبرتيها أنى أقبّل وأنا صائم‏)‏‏.‏

وقال للرجل مثل ذلك، فقال‏:‏ إنك لست مثلنا‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏إنى لأرجو أن أكون أتقاكم لله‏)‏‏.‏

فدل هذا على أن الأسوة واقعة إلا ما منع منه الدليل، ويدل على ذلك أنه لما نهاهم عن الوصال قالوا‏:‏ إنك تواصل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏إنى لست مثلكم، إنى أطعم وأسقى‏)‏‏.‏

فلولا أن لهم الاقتداء به لقال لهم‏:‏ وما فى مواصلتى ما يبيح لكم فعل ذلك، وأفعالي مخصوصة بي، فلم يقل لهم ذلك، ولكن بين لهم المعنى فى اختصاصه بالمواصلة، وهو أن الله يطعمه ويسقيه، وأنهم بخلافه فى ذلك، وكذلك خص الله الموهوبة أنها خالصة له من دون أمته، ولولا ذلك لكانت مباحًا لهم‏.‏

باب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّعَمُّقِ وَالتَّنَازُعِ وَالْغُلُوِّ فِى الدِّينِ

لِقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تُوَاصِلُوا، قَالُوا‏:‏ إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ‏:‏ إِنِّى لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّى أَبِيتُ يُطْعِمُنِى رَبِّى وَيَسْقِينِى‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلالَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلالُ لَزِدْتُكُمْ، كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَلِىّ، أنه خطب وَعَلَيْهِ سَيْفٌ وفِيهِ صَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ، فَقَالَ‏:‏ وَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا مِنْ كِتَابٍ يُقْرَأُ إِلا كِتَابُ اللَّهِ وَمَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ‏.‏‏.‏‏.‏

وذكر الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَة، صَنَعَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا تَرَخَّصَ فِيهِ، وَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّىْءِ، أَصْنَعُهُ، فَوَاللَّهِ إِنِّى أَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ أَبِى مُلَيْكَةَ، كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، لَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَفْدُ بَنِى تَمِيمٍ أَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالأقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ التَّمِيمِىِّ الْحَنْظَلِىِّ أَخِى بَنِى مُجَاشِعٍ، وَأَشَارَ الآخَرُ بِغَيْرِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ‏:‏ إِنَّمَا أَرَدْتَ خِلافِى، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ مَا أَرَدْتُ خِلافَكَ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏(‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ‏}‏ الآية ‏[‏الحجرات‏:‏ 2‏]‏، فَكَانَ عُمَرُ إِذَا حَدَّثَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم بِحَدِيثٍ حَدَّثَهُ كَأَخِى السِّرَارِ لاَ يُسْمِعْهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِى مَرَضِهِ‏:‏ ‏(‏مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فليُصَلّ بِالنَّاسِ‏)‏، إلى قوله‏:‏ ‏(‏إِنَّكُنَّ لأنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ حديث مالك بن أوس، أن العباس وعليًا جاءا إلى عمر يطلبان ميراثهما من النَّبِىّ عليه السَّلام وتنازعهما فِى ذلك مَعَ عُمر‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث بطوله‏.‏

قال المهلب فى قوله‏:‏ ‏(‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏‏:‏ الغلو مجاوزة الحد‏.‏

فهذا يدل أن البحث عن أسباب الربوبية من نزغات الشيطان، ومما يؤدى إلى الخروج عن الحق؛ لأن هؤلاء غلوا فى الفكرة حتى آل بهم الأمر أن جعلوا الآلهة ثلاثة، وأما الذين غلوا فى صيام فهو اتباعهم للوصال بعد أن نهاهم النبى صلى الله عليه وسلم فعاقبهم بأن زادهم مما تعمقوا به‏.‏

وقول على‏:‏ ‏(‏ما عندنا إلا كتاب الله، وما فى هذه الصحيفة‏)‏ فإنه أراد به تبكيت من تنطع وجاء بغير ما فى كتاب الله وغير ما فى سنة رسول الله فهو مذموم‏.‏

وحديث القبلة للصائم الذى تنزه قوم عنها ورخص فيها النبى صلى الله عليه وسلم فذمهم بتعمقهم ومخالفته عليه السلام ‏.‏

وقصة بني تميم لما آل التنازع بين أبي بكر وعمر إلى المخاشنة فى التفاضل بين الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، ورمى بعضهم بعضًا بالمناواة والقصد إلى المخالفة والفرقة، كذلك ينبغى أن تذم كل حالة تخرج صاجبها إلى افتراق الكلمة واستشعار العداوة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏مروا أبا بكر يصلى بالناس‏)‏‏.‏

ذم عائشة لتعمقها فى المعانى التى خشيتها من مقام أبيها فى مقام رسول الله مما روى عنها أنها قصدته بذلك، وذكرتها فى كتاب الصلاة، وذم حفصة أيضًا؛ لأنها أدخلتها فى المعارضة للنبى صلى الله عليه وسلم، وكذلك كراهية رسول الله مسائل اللعان وعيبه لها وهو نص فى هذا الباب؛ لأنه خشى أن ينزل من القرآن ما يكون تضييقًا، فنزل فيه اللعان وهو وعيد عظيم وسبب إلى عذاب الآخرة لمن أراد الله إنفاذه عليه‏.‏

وحديث العباس وعلى خشى أن يئول ما ذم من تنازعهما إلى انقطاع الرحم التى بينهما بالمخاصمة فى هذا المال الموقوف لا سيما بعدما نص عليه حديث رسول الله، فلم ينتهيا عن طلب هذا الوقف ليلياه كما كان يليه الخليفة من توزيعه حيث يحب، وانفرادهما بالحكم وقد تقدم الكلام فى معناه فى كتاب فرض الخمس من كتاب الجهاد والحمد لله كثيرًا‏.‏

باب إِثْمِ مَنْ آوَى مُحْدِثًا

رَوَاهُ عَلِىٌّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَس، حَرَّم النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ‏؟‏ فقَالَ‏:‏ لا يُقْطَعُ شَجَرُهَا، وَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ‏.‏

وقال مُوسَى بْنُ أَنَسٍ، عن أبيه‏:‏ أَوْ آوَى مُحْدِثًا‏.‏

فى هذا الحديث فضل عظيم للمدينة، وذلك تغليظ الوعيد بلعنة الله والملائكة والناس أجمعين لمن أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا، وفى حديث على‏:‏ ‏(‏لا يقبل منه صرف ولا عدل‏)‏‏.‏

ذكره فى آخر كتاب الحج، ودل الحديث على أنه من آوى أهل المعاصى والبدع أنه شريك فى الأثم، وليس يدل الحديث على أن من أحدث حدثًا أو آوى محدثًا فى غير المدينة أنه غير متوعد ولا ملوم على ذلك؛ لتقدم العلم بأن من رضى فعل قوم وعملهم أنه منهم، وإن كان بعيدًا عنهم‏.‏

فهذا الحديث نص فى تحذير فعل شىء من المنكر فى المدينة وهو دليل فى التحذير من إحداث مثل ذلك فى غيرها، وإنما خصت المدينة بالذكر فى هذا الحديث؛ لأن اللعنة على من أحدث فيها حدثًا أشد والوعيد له آكد؛ لانتهاكه ما حذر عنه، وإقدامه على مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كان يلزمه من تعظيم شأن المدينة التى شرفها الله بأنها منزل وحيه وموطن نبيه صلى الله عليه وسلم، ومنها انتشر الدين فى أقطار الأرض فكان لها بذلك فضل مزيّة على سائر البلاد، وقد تقدم اختلاف العلماء فيما يجوز قطعه من شجر المدينة، وما يجوز من الصيد فى حرمها فى آخر كتاب الحج‏.‏

باب مَا يُذْكَرُ مِنْ ذَمِّ الرَّأْىِ وَتَكَلُّفِ الْقِيَاسِ

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 36‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ اللَّهَ لا يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاكُمُوهُ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ، فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ، يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ، فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو وَائِل، شهدت صفين، فسمعت سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ يقول‏:‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، لَقَدْ رَأَيْتُنِى يَوْمَ أَبِى جَنْدَلٍ، وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ لَرَدَدْتُهُ، وَمَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا إِلَى أَمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلا أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ غَيْرَ هَذَا الأمْرِ، قَالَ‏:‏ وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ‏:‏ شَهِدْتُ صِفِّينَ، وَبِئْسَتْ صِفُّونَ‏.‏

قال الطبرى‏:‏ روى مبارك بن فضالة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر قال‏:‏ يا أيها الناس اتهموا الرأى على الدين‏.‏

كقول سهل سواء‏.‏

قال المهلب‏:‏ وغيره‏:‏ إذا كان الرأى والقياس على أصل من كتاب الله وسنة رسول الله أو إجماع الأمة فهو محمود، وهو الاجتهاد والاستنباط الذى أباحه الله للعلماء، وأما الرأى المذموم والقياس المتكلف المنهى عنه، فهو ما لم يكن على هذه الأصول؛ لأن ذلك ظن ونزع من الشيطان، والدليل على صحة هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 36‏]‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ لا تقل ما ليس لك به علم‏.‏

وقال قتادة‏:‏ لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم‏.‏

وأصل القفو العضه والبهت، فنهى الله عباده عن قول ما لا علم لهم به، فإنه سائل السمع والبصر والفؤاد عما قال صاحبها فتشهد عليه جوارحه بالحق، ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله يقبض العلم بقبض العلماء فيبقى ناس جهال فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون‏)‏‏.‏

ألا ترى أنه وصفهم بالجهل، فلذلك جعلهم ضالين هو خلاف الذين قال فيهم‏:‏ ‏(‏لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 83‏]‏، وأمر بالرجوع إلى قولهم‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فإن قيل‏:‏ فإن قول سهل بن حنيف، وعمر بن الخطاب‏:‏ اتهموا الرأى‏.‏

ويرد قول من استعمل الرأى فى الدين، وأنه لا يجوز شىء من الرأى والقياس لأنهم أخطئوا يوم أبى جندل فى مخالفتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى صلحه المشركين، ورده لأبى جندل لأبيه وهو يستغيث، وكان قد عذب فى الله، وهم يظنون أنهم محسنون فى مخالفة رسول الله‏.‏

قيل‏:‏ وجه قولهما‏:‏ اتهموا الرأى الذى هو خلاف لرأى رسول الله وأمره على الدين، الذى هو نظير آرائنا التى كنا خالفنا بها رسول الله يوم أبى جندل، فإن ذلك خطأ، فأما الاجتهاد والاستنباط من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة فذلك هو الحق الواجب والفرض اللازم لأهل العلم، وبنحو هذا جاءت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن جماعة الصحابة والتابعين، روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انصرف من الأحزاب قال‏:‏ ‏(‏لا يصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة فأبطأ ناس فتخوفوا فوت الصلاة، فصلوا، وقال آخرون‏:‏ لا نصلى إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن فاتنا العصر، فما عنف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد الفريقين‏)‏‏.‏

وهذا الخبر نظير خبر سهيل بن حنيف، ومن حرص يوم أبى جندل على القتال اجتهادًا منهم ورسول الله يرى ترك قتالهم فى أنه لم يؤثمهم كما لم يؤثم أحد الفريقين‏:‏ لا الذين صلوا قبل وصولهم إلى بنى قريظة؛ لأن معنى ذلك كان عندهم ما لم يخشوا فوت وقتها، وكذلك لم يؤثم أيضًا الذين لم يصلوا حتى فاتهم وقتها إلى أن صاروا إلى بنى قريظة؛ لأن معنى أمره صلى الله عليه وسلم بذلك كان عندهم لا يصلوها إلا فى بنى قريظة، وإن فاتكم وقتها، فعذر كل واحد منهم لهذه العلة، وروى سفيان، عن الشيبانى عن الشعبى، عن شريح ‏(‏أنه كتب إلى عمر بن الخطاب يسأله، فكتب إليه‏:‏ أن اقض بما فى كتاب الله، فإن لم يكن فى كتاب الله ففى سنة رسول الله، فإن لم يكن فيما قضى الصالحون، فإن لم يكن فإن شئت تقدم وإن شئت تأخر، ولا أرى التأخر إلا خيرًا لك، والسلام‏)‏‏.‏

وروى هشيم، حدثنا سيار، عن الشعبى قال‏:‏ ‏(‏لما بعث عمر شريحًا على قضاء الكوفة قال‏:‏ انظر ما تبين لك فى كتاب الله ولا تسأل عنه أحدًا، وما لم يتبين لك فى كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول الله وما لم يتبين لك فى السنة فاجتهد رأيك فقد أنبأت هذه الأخبار عن عمر أن معنى قوله‏:‏ اتهموا الرأى على الدين‏.‏

أنه الرأى الذى وصفنا؛ لأنه محال أن يقول‏:‏ اتهموا واستعملوه، لأن النهى عن الشىء والأمر به فى حالة واحدة ينقض بعضه بعضًا، ولا يجوز أن يظن ذلك بعمر ونظرائه، ويزيد ذلك بيانًا روى مجاهد، عن الشعبي، عن عمرو بن حريث قال‏:‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ ‏(‏إياكم وأصحاب الرأى فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأى، فضلوا وأضلوا‏)‏‏.‏

فقد بين هذا القول من عمر أنه أمر باتهام الرأى فيما خالف أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، وذلك أنه قال‏:‏ ‏(‏إنهم أعداء السنن أعيتهم أن يحفظوها‏)‏‏.‏

وأخبر أنه لما أعياهم حفظ سنن رسول الله قالوا بآرائهم وخالفوها، جهلا منهم بأحكام رسول الله وسننه وذلك هو الجرأة على الله بما لم يأذن به فى دينه، والتقدم بين يدى رسول الله، فأما اجتهاد الرأى فى استنباط الحق من كتاب الله وسنة رسوله فذلك الذى أوجب الله على العلماء فرضًا، وعمل به المسلمون بمحضر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يعنفهم ولا نهاهم عنه؛ إذ كان هو الحق عنده والدين، واقتفى أثرهم فيه الخلف من بعدهم، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عباس، وروى أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال ابن مسعود‏:‏ ‏(‏ومن عرض له منكم قضاء بما فى كتاب الله، فإن جاء أمرًا ليس فى كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن جاءه أمر ليس فى سنة نبيه فليقض بما قضى به الصالحون، فإن جاءه ما ليس فى ذلك، فليجتهد رأيه، ولا يقل‏:‏ إنى أرى وإنى أخاف فإن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك‏)‏‏.‏

وقد تقدم حديث سهل فى أخر كتاب الجهاد ومر فيه من معناه ما لم أذكره هنا خوف التكرار‏.‏

وقول أبى وائل‏:‏ ‏(‏وبئست الصفون‏)‏‏.‏

سمى المكان بالجمع المسلم كما سمى الرجل يزيدين أو عمرين فيجريه فى حال التسمية به مجراه في حال الجمع، وما كان من الواحد عن بناء الجمع فإعرابه كإعراب الجمع كقولك دخلت فلسطين وهذه فلسطون وأتيت قنسرين وهذه قنسرون، وأنشد المبرد‏:‏

وشاهدنا الحل والياسمون والمستعاب بقضائها ***

ومن هذا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 18، 19‏]‏، فيه مذهب آخر كقولك‏:‏ هذه السلحين، ومررت بالسلحين، ورأيت السلحين‏.‏

باب مَا كَانَ النَّبِىُّ عليه السَّلام يُسْأَلُ فمَّا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيْهِ الْوَحْىُ فَيَقُولُ‏:‏ ‏(‏لا أَدْرِى‏)‏، أَوْ لَمْ يُجِبْ حَتَّى يُنْزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْىُ، وَلَمْ يَقُلْ بِرَأْىٍ وَلا بِقِيَاسٍ

لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 105‏]‏‏.‏

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ‏:‏ سُئِلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرُّوحِ، فَسَكَتَ حَتَّى نَزَلَتِ الآيَةُ‏.‏

- فيه‏:‏ جَابِر، مَرِضْتُ، فَجَاءَنِى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِى وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ، فَأَتَانِى وَقَدْ أُغْمِىَ عَلَىَّ، فَتَوَضَّأَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَبَّ وَضُوءَهُ عَلَىَّ فَأَفَقْتُ، فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَقْضِى فِى مَالِى‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَمَا أَجَابَنِى بِشَىْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمواريث‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا الباب ليس على العموم فى أمر النبى صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد علم أمته كيفية القياس والاستنباط فى مسائل لها أصول ومعانى فى كتاب الله ومشروع سنته؛ ليريهم كيف يصنعون فيما عدموا فيه النصوص؛ إذ قد علم أن الله تعالى لابد أن يكمل له الدين‏.‏

والقياس‏:‏ هو تشبيه ما لا حكم فيه بما حكم فى المعنى فشبه صلى الله عليه وسلم الحمر بالخيل، فقال‏:‏ ما أنزل على فيها شىء غير هذه الآية الفاذة الجامعة‏:‏ ‏(‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7، 8‏]‏، وشبه دين الله بدين العباد فى اللزوم، وقال للتى أخبرته أن أباها لم يحج‏:‏ ‏(‏أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته‏؟‏ فالله أحق بالقضاء‏)‏ وهذا هو نفس القياس عند العرب، وعند العلماء بمعانى الكلام‏.‏

وأما سكوت النبى حتى نزل عليه الوحى، فإنما سكت فى أشياء معضلة ليست لها أصول فى الشريعة فلابد فيها من إطلاع الوحى، ونحن الآن قد فرغت لنا الشرائع واكتمل لنا الدين، وإنما ننظر ونقيس على موضاعاتها فيما أعضل من النوازل‏.‏

وقد اختلف العلماء‏:‏ هل يجوز للأنبياء الاجتهاد‏؟‏ فقالت طائفة‏:‏ لا يجوز لهم ذلك ولا يحكمون إلا بوحى منه‏.‏

وقال آخرون‏:‏ يجوز أن يحكموا بما يجرى مجرى من منام وشبهه‏.‏

قال أبو التمام المالكى‏:‏ ولا أعلم فيه نصًا لمالك، والأشبه عندى جوازه لوجود ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

والاجتهاد علو درجة وكمال فضيلة والأنبياء أحق الناس به؛ بل لا يجوز أن يمتنعوا منها لما فيها من جزيل الثواب، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِى الأَبْصَارِ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 2‏]‏، والأنبياء أفضل أولى الأبصار وأعلمهم، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه اجتهد فى أمر الحروب وتنفيذ الجيوش، وقدر الإعطاء للمؤلفة قلوبهم وأمر بنصب العريش يوم بدر فى موضع، فقال له الحباب بن المنذر‏:‏ أبوحى نصبته هنا أم برأيك‏؟‏ فقال‏:‏ بل برأيى‏.‏

قال‏:‏ الصواب نصبه بموضع كذا‏.‏

فسماه النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ذا الرأيين‏.‏

فعمل برأيه ولم ينتظر الوحى وحكم بالمفاداة والمن على الأسرى يوم بدر بعد المشورة، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏، ولا تكون المشورة إلا فيما لا نص فيه‏.‏

وروى أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يضمن لقوم من الأعراب ثلث ثمر المدينة، فقال له سعد بن المعاذ‏:‏ والله يا رسول الله كنا كفارًا فما طمع أحد أن يأخذ من ثمارنا شيئًا، فلما أعزنا الله بك نعطيهم ثلث ثمارنا فعمل بذلك رسول الله، وقد ذكر الله فى كتابه قصة داود وسليمان حين اجتهدا فى الحكم فى الحرث، ولا يجوز أن يختلفا مع ما فيه من نص موجود‏.‏

باب تَعْلِيمِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ لَيْسَ بِرَأْىٍ وَلا تَمْثِيلٍ

- فيه‏:‏ َبُو سَعِيد، جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَ الرِّجَالُ بِحَدِيثِكَ، فَاجْعَلْ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ يَوْمًا، نَأْتِيكَ فِيهِ، تُعَلِّمُنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ‏:‏ اجْتَمِعْنَ فِى يَوْمِ كَذَا وَكَذَا فِى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَاجْتَمَعْنَ، فَأَتَاهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَّمَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا ثَلاثَةً إِلا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ‏)‏، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوِ اثْنَيْنِ‏؟‏ فَأَعَادَتْهَا مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه من الفقه أن العالم إذا أمكنه أن يحدث بالنصوص عن الله ورسوله فلا يحدث بنظره ولا قياسه، هذا معنى الترجمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدثهم حديثًا عن الله لا يبلغه قياس ولا نظر، وإنما هو توقيف ووحى، وكذلك ما حدثهم به من سنته فهو عن الله أيضًا؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 3‏]‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أوتيت الكتاب ومثله معه‏)‏ قال أهل العلم‏:‏ أراد بذلك السنة التى أوتى‏.‏

وفيه سؤال الطلاب العالم أن يجعل لهم يومًا يسمعون فيه عليه العلم، وإجابة العالم إلى ذلك، وجواز الإعلام بذلك المجلس للاجتماع فيه، وترجم له فى كتاب العلم هل يجعل للنساء يومًا على حده فى العلم‏.‏

باب قَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ يُقَاتِلُونَ‏)‏

وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ - فيه‏:‏ الْمُغِيرَة، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ مُعَاوِيَة، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَنْ يَزَالَ أَمْرُ هَذِهِ الأمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، أَوْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ إن قيل‏:‏ إن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق‏)‏ لفظه لفظ الخصوص فى بعض الناس دون بعض، وقال فى حديث معاوية‏:‏ ‏(‏لن يزال أمر هذه الأمة مستقيمًا حتى تقوم الساعة‏)‏‏.‏

فعم الأمة وهذا معارض للحديث الأول، مع ما يقوّى ذلك مما رواه محمد بن بشار قال‏:‏ ثنا ابن أبى عدى، عن حميد، عن أنس قال‏:‏ ‏(‏لا تقوم الساعة حتى لا يقال فى الأرض الله الله‏)‏ وما رواه شعبة عن على بن الأقمر، عن أبى الأحوص، عن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس‏)‏ وهذه أخبار معارضة لحديث معاوية‏.‏

قال الطبرى‏:‏ ولا معارضة بين شىء منها، بل بعضها يدل على صحة بعض، ولكن بعضها خرج على العموم، والمراد به الخصوص، فقوله‏:‏ ‏(‏لا تقوم الساعة حتى لا يقال فى الأرض الله‏)‏، و ‏(‏لا تقوم إلا على شرار الناس‏)‏ يعنى‏:‏ فى موضع كذا، فإن به طائفة من أمتى لا يضرهم من خالفهم وهم الذين عنى بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لن يزال أمر هذه الأمة مستقيمًا‏)‏ يريد‏:‏ فى موضع دون موضع‏.‏

فإن قيل‏:‏ وما الدليل على ذلك‏؟‏ قيل‏:‏ هو أنه لا يجوز، وأن يكون فى الخبر ناسخ ولا منسوخ، وإذا ورد منه القولان من أن أمته طائفة على الحق، وأن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق بالأسانيد الصحاح، وكان غير جائز أن توصف الطائفة التى على الحق بأنها شرار الناس، وأنها لا توحد الله، على أن الموصوفين بأنهم شرار الناس غير هؤلاء الموصوفين بأنهم على الحق، وقد بين ذلك أبو أمامة فى حديثه حدثنا أحمد بن الفرح الحمصى قال‏:‏ ثنا ضمرة بن ربيعة، عن يحيى بن أبى عمرو الشيبانى، عن عمرو بن عبد الله الحمصى، عن أبى أمامة الباهلى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق، لعدوّهم قاهرين، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك‏.‏

قيل‏:‏ يا رسول الله، وأين هم‏؟‏ قال‏:‏ ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس‏)‏‏.‏

فثبت أنه ليس أحد هذه الأخبار معارضًا لصاحبه‏.‏

باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 65‏]‏

- فيه‏:‏ جَابِر، لَمَّا نَزَلَت عَلَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ‏(‏، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَعُوذُ بِوَجْهِكَ‏)‏‏)‏ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ‏(‏، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَعُوذُ بِوَجْهِكَ‏)‏، فَلَمَّا نَزَلَتْ‏:‏ ‏(‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 65‏]‏، قَالَ‏:‏ ‏(‏هَاتَانِ أَهْوَنُ أَوْ أَيْسَرُ‏)‏‏.‏

ذكر المفسرون فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ‏(‏، قالوا‏:‏ يحصبكم بالحجارة، أو يغرقكم بالطوفان الذى غرق به قوم نوح‏)‏ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ‏(‏، الخسف الذى نال قارون ومن خسف به، وقيل‏:‏ الريح‏)‏ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا ‏(‏يعنى‏:‏ يخلط أمركم فيجعلكم مختلفى الأهواء، يقال‏:‏ لبست عليكم الأمر ألبسته إذا لم أبينه، ومعنى شيعًا أى‏:‏ فرقًا، لا نكون شيعة واحدة‏.‏‏)‏ وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 65‏]‏، يعنى بالحرب والقتل، ويروى أن النبى صلى الله عليه وسلم سأل ربه عز وجل أن لا يستأصل أمته بعذاب، ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فأجابه عز وجل فى صرف العذاب ولم يجبه فى أن لا يذيق بعضهم بأس بعض وأن لا تختلف؛ فلذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هاتان أهون وأيسر‏)‏ أى‏:‏ الاختلاف والفتنة أيسر من الاستئصال والانتقام بعذاب الله، وإن كانت الفتنة من عذاب الله لكن هى أخف؛ لأنها كفارة للمؤمنين، أعاذنا الله من عذابه ونقمه‏.‏

باب مَنْ شَبَّهَ أَصْلا مَعْلُومًا بِأَصْلٍ مُبَيَّنٍ فَبَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَهُمَا لِيُفْهِمَ السَّائِلَ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ إِنَّ امْرَأَتِى وَلَدَتْ غُلامًا أَسْوَدَ، وَإِنِّى أَنْكَرْتُهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَمَا أَلْوَانُهَا‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ حُمْرٌ، قَالَ‏:‏ ‏(‏هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَأَنَّى تُرَى ذَلِكَ جَاءَهَا‏)‏، قَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِرْقٌ نَزَعَهَا، قَالَ‏:‏ ‏(‏وَلَعَلَّ هَذَا عِرْقٌ نَزَعَهُ‏)‏، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِى الانْتِفَاءِ مِنْهُ‏.‏

- وفيه‏:‏ بْن عَبَّاس، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ‏:‏ إِنَّ أُمِّى نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَحُجَّ، أَفَأَحُجَّ عَنْهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏نَعَمْ، حُجِّى عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ‏)‏‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ نَعَمْ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اقْضُوا اللَّهَ الَّذِى لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قوله‏:‏ من شبه أصلا معلومًا بأصل مبين، فبين ليفهم السائل‏.‏

هذا هو القياس بعينه والقياس فى لغة العرب‏:‏ التشبيه والتمثيل، ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم شبه له ما أنكر من لون الغلام بما عرف فى نتاج الإبل فقال له‏:‏ ‏(‏هل لك من إبل‏؟‏‏)‏ إلى قوله‏:‏ ‏(‏لعل عرقًا نزعه‏)‏ فأبان له صلى الله عليه وسلم بما يعرف أن الإبل الحمر تنتج الأورق أن كذلك المرأة البيضاء تلد الأسود، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم للمرأة التى سألته الحج عن أمها فقال لها‏:‏ ‏(‏أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته‏؟‏ قالت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فدين الله أحق بالوفاء‏)‏‏.‏

فشبه لها صلى الله عليه وسلم دين الله بما يعرف من دين العباد، غير أنه قال لها‏:‏ ‏(‏فدين الله أحق‏)‏‏.‏

وهذا كله هو عين القياس وبهذين الحديثين احتج المزنى على من أنكر القياس، قال أبو تمام المالكى‏:‏ اجتمعت الصحابة على القياس، فمن ذلك أنهم أجمعوا على قياس الذهب على ورق فى الزكاة‏.‏

وقال أبو بكر الصديق‏:‏ أقيلونى بيعتى‏.‏

فقال على‏:‏ والله لا نقيلك، رضيك رسول الله لديننا، فلا نرضاك لدنيانا‏؟‏ فقياس الإمامة على الصلاة، وقياس الصديق الزكاة على الصلاة، وقال‏:‏ والله لا أفرق بين ما جمع الله‏.‏

وصرح على بالقياس فى شارب الخمر بمحضر الصحابة، وقال‏:‏ إنه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى، فحده حد القاذف‏.‏

وكذلك لما قال له الخوارج‏:‏ لم حكمت‏؟‏ قال‏:‏ قد أمر الله تعالى بالحكمين فى الشقاق الواقع بين الزوجين فما بين المسلمين أعظم‏.‏

وهذا ابن عباس يقول‏:‏ ألا اعتبروا، الأصابع بالأسنان اختلفت منافعها واستوت أورشها، وقال‏:‏ ألا يتقى الله زيد، يجعل ابن الابن ابنًا، ولا يجعل أبا الأب أبًا، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبى موسى الأشعرى يعلمه القضاء فقال له‏:‏ اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك‏.‏

واختلف على وزيد فى قياس الجد على الإخوة، فقاسه علىّ بسبيل انشعبت منه شعبة ثم انشعبت من الشعبة شعبتان، وقاس ذلك زيد بشجرة انشعب منها غصن، وانشعب من الغصن غصنان‏.‏

وقال ابن عمر‏:‏ وقت النبى صلى الله عليه وسلم لأهل نجد قرنًا ولم يوقت لأهل العراق، فقال عمر‏:‏ قيسوا من نحو العراق كنحو قرن‏.‏

قال ابن عمر‏:‏ فقاس الناس من ذات عرق‏.‏

ولو ذكرنا كل ما قاسه الصحابة لكثر به الكتاب غير أنه موجود فى الكتب لمن ألهمه الله رشده، وقد قيل للنخعى‏:‏ هذا الذى تفتى به أشيئًا سمعته‏؟‏ قال‏:‏ سمعت بعضه فقست ما لم أسمع على ما سمعت‏.‏

وربما قال‏:‏ إنى لأعرف بالشىء الواحد مائة شىء‏.‏

قال المزنى‏:‏ فوجدنا بعد النبى صلى الله عليه وسلم أئمة الدين فهموا عن الله تعالى ما أنزل إليهم وعن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أوجب عليهم، ثم الفقهاء إلى اليوم هلم جرا، استعملوا المقاييس والنظائر فى أمر دينهم، فإذا ورد عليهم ما لم ينص عليه نظروا، فإن وجدوه مشبهًا لما سبق الحكم فيه من النبى صلى الله عليه وسلم أجروا حكمه عليه، وإن كان مخالفًا له فرقوا بينه وبينه، فكيف يجوز لأحد إنكار القياس‏؟‏ ولا ينكر ذلك إلا من أعمى الله قلبه وحبب إليه مخالفة الجماعة‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وإنما أنكر القياس‏:‏ النظام، وطائفة من المعتزلة، واقتدى بهم فى ذلك من ينسب إلى الفقه داود بن على، والجماعة هم الحجة ولا يلتفت إلى من شذ عنها‏.‏

باب اجْتِهَادِ الْقُضَاةِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ

لِقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏ وَمَدَحَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم صَاحِبَ الْحِكْمَةِ حِينَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا لا يَتَكَلَّفُ مِنْ قِبَل نفسه، وَمُشَاوَرَةِ الْخُلَفَاءِ وَسُؤَالِهِمْ أَهْلَ الْعِلْمِ‏.‏

- فيه‏:‏ عَبْدِاللَّه، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا حَسَدَ إِلا فِى اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِى الْحَقِّ، وَآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ إِمْلاصِ الْمَرْأَةِ، هِىَ الَّتِى يُضْرَبُ بَطْنُهَا، فَتُلْقِى جَنِينًا، فَقَالَ‏:‏ أَيُّكُمْ سَمِعَ مِنَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ شَيْئًا‏؟‏ فَقُلْتُ‏:‏ أَنَا، فَقَالَ‏:‏ مَا هُوَ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ‏)‏، فَقَالَ‏:‏ لا تَبْرَحْ حَتَّى تَجِيئَنِى بِالْمَخْرَجِ فِيمَا قُلْتَ، فَخَرَجْتُ فَوَجَدْتُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، فَجِئْتُ بِهِ فَشَهِدَ مَعِى أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ‏)‏‏.‏

الاجتهاد فرض واجب على العلماء عند نزول الحادثة، والواجب على الحاكم أو العالم إذا كان من أهل الاجتهاد أن يلتمس حكم الحادثة فى الكتاب أو السنة، ألا ترى أن عمر ابن الخطاب لما احتاج إلى أن يقضى فى إملاص المرأة سأل الصحابة من عنده علم من النبي صلى الله عليه وسلم فى ذلك‏؟‏ فأخبره المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة بحكم النبي صلى الله عليه وسلم فى ذلك، فحكم به ولم يسغ له الحكم فى ذلك باجتهاده إلا بعد طلب النصوص من السنة، فإذا عدم النص رجع إلى الإجماع، فإن لم يجده نظر هل يصح حمل حكم الحادثة على بعض الأحكام المتقررة لعلة تجمع بينهما، فإن وجد ذلك لزمه القياس عليها إذا لم تعارضها علة أخرى‏.‏

ولا فرق بين أن يجعل العلة مما هو من باب الحادثة أو غيره؛ لأن الأصول كلها يجب القياس عليها إذا صحت العلة، فإن لم يجد العلة استدل بشواهد الأصول وغلبة الأشباه إذا كان ممن يرى ذلك، فإن لم يتوجه له وجه من بعض هذه الطرق وجب أن يقر الأمر فى النازلة على حكم العقل، ويعلم أنه لا حكم لله فيها شرعيًا زائدًا على العقل‏.‏

هذا قول ابن الطيب‏.‏

قال غيره‏:‏ وهذا هو الاستنباط الذى أمر الله عباده بالرجوع إلى العلماء فيه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 83‏]‏، والاستنباط هو الاستخراج، ولا يكون إلا فى القياس؛ لأن النص ظاهر جلى وليس يجوز أن يقال‏:‏ إن عدم النص على الحادثة من كتاب الله أو سنة رسوله‏.‏

يوجب حكم لله فيها لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَىْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏، إذ لو خلا بعض الحوادث أن تكون لا حكم لله فيها بطل إخباره إيانا بقوله‏:‏ ‏(‏مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَىْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏، وفى علمنا أن النصوص لم تحط بجميع الحوادث دلالة أن الله تعالى قد أبان لنا حكمها بغير جهة النص، وهو القياس على علة النص، ولو لم يتعبدنا الله إلا بما نص عليه فقط لمنع عباده الاستنباط الذى أباحه لهم، والاعتبار فى كتابه الذى دعاهم إليه، ولو نص على كل ما يحدث إلى قيام الساعة لطال الخطاب، وبعُد إدراك فهمه على المكلفين، بل كانت بنية الخلق تعجز عن حفظه، فالحكمة فيما فعل من وجوب الاجتهاد والاستنباط والحكم للأشياء بأشباهها ونظائرها فى المعنى، وهذا هو القياس الذى نفاه أهل الجهالة القائلون بالظاهر المنكرون للمعانى والعلل ويلزمهم التناقض فى نفيهم القياس؛ لأن أصلهم الذى بنوا عليه مذهبهم أنه لا يجوز إثبات فرض فى دين الله إلا بإجماع من الأمة، والاجتهاد والقياس فرض على العلماء عند عدم النصوص فيلزمهم أن يأتوا بإجماع من الأمة على إنكار القياس، وحينئذ يصح قولهم، ولا سبيل لهم إلى ذلك‏.‏